يرصد هذا الكتاب أهم التحولات التي شهدتها دول الخليج العربية منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين، وبخاصة العقود الأخيرة منه. ويقف أمام ظاهرة التحول من إمارات إلى الدول، وهي التي تكاد تكون فريدة من نوعها مثلما أن تركيبة دول المنطقة السكانية تكاد تكون فريدة من نوعها أيضًا، وقد عرّج الكتاب عليها في أكثر من موضع. إن ما نطرحه في هذا الكتاب هو ملامح وأمثلة على الحداثة والتحديث في دول مجلس التعاون الخليجي في مرحلة مهمة من تاريخها المعاصر.
يُعبّر عن الحداثة؛ بأنها وعيٌ فكريٌ تقدميّ ترتبت عليه ظواهر وتحولات تاريخية، وذلك بعد الكشوف الجغرافية الهائلة في القرن السادس عشر وثورة الفلاسفة والمخترعين التي زامنت تلك الاكتشافات، فكان ثمة ضوء أضاء هذه المسيرة الطويلة، والتي انتهت بعهد التنوير والثورات الصناعية في أوروبا والثورة الأمريكية والثورة الفرنسية قبلها، وما أعقب هذا من تمكين هذه الفتوحات الجغرافية في التمدد السياسي والعسكري وفي البحث عن المواد الخام التي تخدم الثورة الصناعية، وبما أشعلته من فتيل الصناعات الثقيلة وغيرها في جميع أنحاء أوروبا، مُكرّسةً جهود هؤلاء المخترعين والفلاسفة والعلماء.
ولم تكن معركة التنوير في أوروبا سهلة، بل مرت بأطوار شرسة من الحروب الأهلية وغير الأهلية ومعارك أخرى داخلية مع الأصولية المسيحية؛ إذ يمكن حصر معارك أوروبا للانتقال من أوروبا القديمة إلى أوروبا الحديثة بين العقلانية (التي تنتسب إلى التنوير والحداثة) واللاهوتية التي اصطبغت بالصبغة الراديكالية المسيحية التقليدية. ولم يكن فلاسفة ومفكرو عهد التنوير في أوروبا يستهدفون ذات الدين المسيحي من حيث هو دين، بل ما كانوا يستهدفونه هو سيطرة رجال الإكليروس الكَنَسي التي أحكمت قبضتها على عقول الناس، وتداخل الديني مع السياسي، فلم يكن الهدف هو نبذ الدين كليَّةً بل ترسيخ الحرية والعقلانية بعيدًا عن هذه السيطرة؛ فانتهت لمرحلة علمانية تمامًا بأن تم فصل الدين عن الحياة السياسية منها وغير السياسية.
ويعتبر أَوْجُ مرحلة التنوير هذه متمثلًا في الثورة الفرنسية وبما حملته من أفكار تعد بمثابة الأسلحة الثقيلة لعهد التنوير في أوروبا وخارج أوروبا بل لنقُل للعالم أجمع. ويمكن أن نقول باختصار أنه بعد الثورة الصناعية كان التحديث بريطانيًّا والحداثة فرنسية؛ بمعنى أن الأفكار التي قادت التنوير كانت فرنسية على كل مستويات هذا التنوير، سياسية كانت أو اقتصادية أو حربية، والتحديث الذي استثمر هذه الأفكار في مصالحه على ظهر الأرض كان بالسواعد البريطانية. وكمثال بسيط، شركة الهند الشرقية وبما كانت تمتكله من إرث ضخم من المواد الخام على ظهر كوكب الأرض. وقد نتج عن هذه الثورة أحد أهم أسلحتها الفتاكة ألا وهو (الاستشراق) وهو جزء لا يتجزأ من مسيرة الحداثة الطويلة والمستمرة، رغم ما يحمله من سلبيات كثيرة رافقت رحلته الطويلة التي امتدت قرونًا، إذ تم استغلال هذه المعرفة الاستشراقية بكل أشكالها في تيسير مهمة الآلة الحربية لمزيد من السيطرة على كل الدول المستعمَرة، وفي القلب منها الشرق الأوسط وهو الذي يخصنا في هذا الكتاب.
ونودُّ أن نشير إلى أن فكرة الحداثة والتحديث هي فكرة وواقع أوروبيان، لكن الفارق أن الحداثة قد سبقت التحديث لديهم فكانت هناك مواد خام ألا وهي ثورة الأفكار قبل أن يكون هناك تحديث بسواعد هذه الشعوب، وهو ما حدث عكسه في بلادنا بعد نيل أغلب دولها الاستقلال من مستعمريها، فسبق التحديثُ الحداثةَ. وتكمن المشكلة الحقيقية في أننا إذا أردنا الاستفادة من تجارب الآخرين، فإننا ننسخُ تلك التجارب وننقلها دون أن نُكيِّفَها مع الواقع الذي يختلف كليًا عن تجارب هذه الدول.
تبعًا للتوسعات العسكرية لدول أوروبا ما بعد الثورة الفرنسية، كانت أبرز محاولات التحديث وأشهرها في دول الشرق الأوسط وفي قلبها مصر؛ حيث شن (نابليون بونابرت) حملة عسكرية على مصر لمنافسة الإنجليز في فرض سيطرة أكبر على الطرق البحرية والبرية. وبرغم الاعتبار التاريخي لهذه الحملة بأنها حملة استعمارية صِرْفة، فإنها تُعامَل بطريقة مختلفة أو غائمة بالنسبة لبعض المؤرخين العرب؛ إذ عرف العرب منها الطباعة، وظهرت فكرة حفر قناة السويس للنور، وعرف العرب منها القوانين الوضعية والدساتير، وطرق جديدة في التخطيط العمراني والبناء العسكري الحربي. وتُعد أبرز نقاط الحملة الفرنسية على مصر تأثيرًا؛ هي تلك الأفكار الجديدة التي خرجت من رحم الثورة الفرنسية وتُركت لتنضج وتختمر في مصر وقد كان لها أعظم الأثر في توجيه أجيال عريضة فيما بعد في تأسيس ما يعرف بمصر الحديثة.
ويتجلى أعظم أسباب التحديث في مصر في دولة (محمد علي) الذي بدأ بإصلاح الجيش وفَرْض التجنيد الإجباري، وتأسيس المدارس والبيمارستانات وافتتاح مدرسة للطب وأخرى للهندسة ليخدم جيشه، والاهتمام بتحسين طرق الزراعة التي كان اعتماد مصر الرئيسي عليها فيما يخص الاقتصاد القومي، وإرسال البعثات للإفادة من أحدث الطرق التعليمية التي كان يمتلكها الغرب آنذاك. لكن هذه التجربة التي بدأت قوية للغاية ونقلت مصر سنين ضوئية عن جيرانها لم يُكتَب لها النجاح وذلك لعدة أسباب ومنها: أن هذه التجربة كانت مرتكزة على تطوير كل ما يخص الجيش فقط لا غير، هكذا كان يفكر (محمد علي). هذه التجربة لم تُبْنَ على أُسس ديمقراطية؛ إذ جرَّفَ (محمد علي) الطبقات الاجتماعية المصرية، لينظم طبقاته الخاصة ورجاله الأوفياء. ومنها أيضًا التحدي الأوروبي الذي كان يرى في هذه التوسعة العَلَوية خطرًا داهمًا على مصالحه الإقليمية، وأخيرًا النقطة التي يرتكز عليها حديثُنا، وهي غياب الفكر الحداثي النابع من أصالة الإنسان المصري، وما كان يسمى بالمملكة المصرية وقتذاك؛ فكانت جميع التطورات تحديثية بامتياز، وسواء اتفقت مع هذا الشعب أم لا فعليه أن يعتادها، وهناك ما اعتاده وهناك ما لفظه. ويبدو أن الأخير أكثر من الأول؛ فلذلك حُكم على المشروع بالفشل وأنتج طفلًا مشوهًا لا هو مصري خالص ولا هو غربي خالص.
ومن مصر إلى اليابان، حيث بدأت حقبة التحديث في عهد الإمبراطور (مايجي) في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث بدأت الأمة اليابانية في استيعاب مستخرجات الغرب الحداثية والتحديثية في آنٍ واحد وإدخالها في النسيج الاجتماعي بشكل وظيفي يخدم طبيعة هذه الأمة ومعتقداتها؛ لإنتاج حداثة يابانية خاصة لا تقف عند حدود النقل والاقتباس من الغرب، بل إلى الاستيعاب والإنتاج الذاتي. وبنهاية عصر الإمبراطور (مايجي) أصبحت اليابان قوة ضاربة بين القوى العالمية من حيث الصناعة والتجارة وقوة النسيج المجتمعي، وهو ما أدى إلى عواقب وخيمة بعد الحربين العالميتين التي كانت اليابان شريكًا أساسيًا فيهما، فلم تُقْدِم الولايات المتحدة على خطوة ضرب اليابان بالقنبلة الذرية إلا بعد تيقنها تمامًا أن هذه الأمة لم تصبح قوة في الشرق الأسيوي يُحسب حسابها على المستوى العسكري فقط، بل على المستوى الحضاري المذهل والذي يخرج من رحمه كل قيمة أخلاقية ومادية أخرى. فبعد هذه الحرب العالمية وفرض القيود العالمية على اليابان نهضت هذه الأمة من كارثة هيروشيما وناجازاكي وأصبحت من أعظم الدول الحضارية الحداثية الموجودة في الساحة العالمية الآن، وكان عماد هذه النهضة هو التعليم. وكان اهتمام اليابانيين بالتعليم العام أكثر من التعليم الجامعي؛ وهو التعليم الذي يندرج تحته التعليم المهني والصناعي ليخدم بذلك مشروع النهضة؛ لأن المرحلة التاريخية من بلادهم كانت تتطلب ذلك.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان